Culture

هل حقاً زامر الحي لا يطرب؟

بقلم: عبد الكريم محمد

البارحة سألني عابر سبيل عرفته للتو، من أين جاء مثل زامر الحي لا يطرب؟

حقيقة وبلا ادعاء أني أعرفي القصة من مجالس أهلنا، منذ نعومة أظافري.. كان الوقت ردهة ما قبل الغروب، يسمح لنا بالمسامرة، مع الرجل السبعيني الذي يعيش الغربة منذ 55 عاماً في بلاد الغربة، وما يزال منتصباً كالسنديان..

قلت له ثمة شاب بمقتبل العمر، كان يرعى برزق أهله، وعشق آلة الناي، لدرجة أنه يقوى على إخراج الأفاعي من جحورها، لشدة ألحانه العذبة.. كما يقال بالأمثار لتميزه واقتداره.

حتى أن الأغنام باتت تعيش على ألحانه، كالساحر الذي يربط الوحوش عن قطيعة بقرائة تعويذاته على حديدة صدئة أو مدية أو سكين.. فلا تقوى أية دابة الابتعاد عنه، لدرجة أنه ربى آذان أغنامه على ألحان مزماره.. بالبداية كان أهله وجيرانه وأبناء قريته يصنتون لسماع عذوبة ألحانه، لتشدهم انشغالاتهم لأعمالهم غير عابئين..

لكن الحكاية لم تولد بعد، فقد مرّ عابر سبيل على القرية وسمع ما سمع من ألحان تطبق على القلوب والفلوب قبل الأسماع..  انشد الرجل لهذا الشاب وكأنما سحراً قد أطبق على أنفاسه لكثرة إعجابه بحسن مظهره وجماليات ألحانه.. بلا تردد  قدم الرحالة أو عابر السبيل، عرضه على هذا الشاب بالرحيل معه على أن يعطيه أجراً  شهريا  ألف درهم..

لم يتوان الشاب الطموح، فوافق على الفور بلاد تردد وسار مع الرحالة، فذهب حديثي المعرفة  إلى قرية قريبة وأعلن الرحالة عن حفلة عظيمة يحييها هذا الفتى الملُهم.. ليأسر قلوب سامعيه، وليصبح مثلاً أو وصفة لشدة جماليات عزفه.

المهم بالأمر، أن  الشاب تجاوز مرحلة يسر الحال ليصبح غنياً متميزاً ذا سمعة محمودة، فشده الحنين إلى أهله وأبناء قريته، مستأذناً الرحالة بالرحيل.. لكن الرحالة صاحب التجربة المسقولة، نصحه بعدم الذهاب إلى تلك القرية، إلا أنه أصر على الذهاب ونزولاً عند رغبته، امتثل الرحالة إلى مطلبه في الزيارة غير المحمودة من وجهة نظر الرحالة..

المهم رجع الاثنان وكل واحد منهم كان يمتطي هودجاً مجرساً بل ومرصعاً بالذهب والفضى، اجتمع الناس على هول ما رأوه من عظمة الهودج وجماله وما فيه من بزخ يسحر عين الناظر. بقيا في مسيرهما حتى وصلا ساحة القرية، فخرج عليهم الشاب من هودجه دون أن يعرفه أحد منهم لشدة حسنه وجمال مظهره، وكل ما يقوون عليه تصوير تفاصيله وحركته التي تشبه حركات الأمراء المتوجين..

في هذه اللحظة بالذات أخرج  الشاب نايه من جعبته، وأخذ يعزف بلحن طالما دندن به فى أعلى الربوة وطالما أشجى الناس به خارج قريته ، وأخذ يعزف ويعزف حتى انتهى اللحن وهنا توقف الشاب وانتظر سماع التصفيق كما اعتاد فى كثير من القرى ولكن  لم يكن هناك من البشر غير اثنين، أولهما الرحالة وثانيهما شيخ عجوز، صفقا له بكل قوة وإعجاب.

 بعدها قال الرحالة كلمة الفصل  للشاب: ” زامر الحي لايطرب “ او كما هو متداول بين العامة “زمار الحي لا يطرب”.

وأما الشيخ فقال : ”أخطأت إذ أتيت، وأخطأت إذ تدنيت، وأخطأت إذ تمنيت“.

فسأله الشاب عن معنى ما قاله:

 فأجابه، أما الأولى: ” فأخطأت إذ أتيت من أرض أنت ناجح فيها لأرض قد طُردت منها، فليس بعد الزيادة إلا النقصان ”.

وأما الثانية: ”فأخطأت إذ تدنيت بأن جعلت من يأخذ منك ما لا تأخذ مثله منه، المقصود الرحاله، بأن جعل لك ألف درهم وهو يتكسب منك ألف دينار ”.

 وأما الثالثة: ”فأخطأت إذ تمنيت أن يُكرمك أهلك بعد إذ وجدت الخير فى غيرهم”.

لكن بالنهاية، لا بد من كلمة تقال: ” أن فاقد الشيء لا يعطيه”، فأبناء قريته وأهله يفتقدون لحبهم لما هو جميل، ويعشقون الضجيج، تماماً ك”العربة الفارغة التي تحدث ضجيجاً”، فلن يقوى أحد على وجه الأرض أن يربي مسماعهم أو آذانهم على انغام الناي الجميلة مهما فعل.