International Politics

تغيرات كونية.. لم يعد العالم بحاجة لدول عظمى  

بقلم: عبد الكريم محمد

قد لا نبالغ بالقول إذا ما اعتبرنا، فكرة أن العالم لم يعد بحاجة لدول عظمى أو قوية.. هذه الفكرة لم تكن وليدة اللحظة، بل بدأت تطل برأسها منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.. وقد صاحبها الكثير من الأفكار التي تقول أن الدول القوية أو الدول العظمى، هي من جلبت معها المظالم ليس فقط في البلاد التي يسيطرون عليها بفعل القوة، بل المظالم لشعوبهم عبر سيطرة حفنة من أصحاب رؤوس الأموال والسياسيين والعسكر، رغم التظاهر بالعدالة الكاذبة.

خاصة وأن هذه الدول غالباً ما يحكمها هاجس خلق الوكيل، المقلد لها بكل شيء، حتى في  الأمراض الاجتماعية، التي قد لا تكون أصلا موجودة بفعل الثقافة والأعراف والتقاليد والقيم السائدة.. ناهيك عن خلق الفجوات التي تصنعها الوقائع الاجتماعية – الاقتصادية، الهجينة، التي فرضت بقرار معلب مسبق، ليس بفعل الصيرورة والتطور الطبيعي.

ما يجري اليوم حقيقة في العالم، هو تعبير مطلق عن رفض للدول العظمى، ورفض لهذا السلوك غير المبرر وغير الأخلاقي أصلاً، بمعزل عن الدساتير والتكاذب بشعارات حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية والحريات.. فالفوارق الطبقية داخل المجتمعات من جهة، ونهب خيرات الشعوب الضعيفة وابتزازها ومنع أسباب تطورها، هو جريمة تمس كل البشرية من دون استثناء، وإن اختلفت النسب، من جهة أخرى.

على ما يبدو أن فتيل نار عدم الحاجة نشهد تداعياتها هذه الأيام، في الحرب بين الطبيعة الواحدة ما بين روسيا وبلاروسيا من جانب وأوكرانيا وحلفائها الأوروبيين من جانب آخر.. وأن عدم الحاجة للدولة العظمى والدور القائد، هو من يدفع حقيقة لمثل هذه الحرب المدمرة، والتي تحمل في داخلها البحث عن الديمومة والبقاء بفعل القوة لا أكثر.. أي بفعل الاصطفاء الطبيعي لهيمنة القوة.

بل أن ما يقترحه بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي استخدام قانون قديم يسمح للحكومة بإصدار تراخيص للقرصنة البحرية، بغرض الاستيلاء على اليخوت الروسية.. وما يقابله من إجرام للنظام الروسي في  أوكرانيا، هو اتفاق غير معلن بين حلفاء الأمس، عن فكرة الدفاع عن الذات ولو كان خراباً، انطلاقاً من إعادة ترسيخ دور الدولة العظمى، ولو أدى ذلك إلى حرب كونية، قد لا تبقي ولا تذر.

اليوم ولحسن حظ فقراء الأرض، الذين يموتون جوعاً، يدور الحديث عن التدمير المادي لكل شيء روسي في العالم كمقدمة لشيء أكبر، كما قام الرومان القدماء برش الأرض بالملح، بعد استيلائهم على قرطاج، حتى لا ينمو أي شيء آخر هناك.. تلك هي معركة النهاية.

بكلام أكثر دقة، فإن روسيا تمر بمثل معارك النهاية تلك، عندما يتعلق الأمر بالتدمير الكامل، لما يطلق عليه اصطلاحاً بالحضارة الروسية، مرة كل قرن، وأحياناً أكثر من ذلك في القرن الواحد.. وأن ذلك السلوك سوف يتكرر في المستقبل أيضاً بفعل الحاجة للتغيير، نفياً لما هو قائم، باعتباره مرضاً وليس عرضاً.

في هذه الحالة، ليس هناك ما هو غريب في الأمر. كل ما هنالك أننا في تلك الظروف نتطلع إلى الأحداث السريعة التي كان من الممكن أن تحدث في غضون 10 سنوات مقبلة على أي حال.. أو ربما لم يكن لتلك الأحداث أن تتسارع سوى على هذا النحو اقتراباً من الذروة.

أي أن الغرب يطوي الصفحة لنفسه، ويدخل في عالم لا يضمن فيه وجوده بالأساس. بالنسبة له هو الآخر، تلك هي المعركة النهائية، وشراسة وقسوة الإجراءات ضد روسيا ترجع إلى ذلك، فالغرب على حافة الهاوية وانهيار الاقتصاد، ثم الولايات المتحدة فالاتحاد الأوروبي ودول أخرى كثيرة. هو في عجلة من أمره، ولم يتبق له سوى عام أو عامين كحد أقصى قبل انهيار الاقتصاد، والانتصار التلقائي لروسيا والصين. والتدمير الوقائي لروسيا، ثم للصين، هو الفرصة الوحيدة لبقاء الغرب على قيد الحياة.

في نفس الوقت، فمن الجدير بالملاحظة أن الولايات المتحدة الأمريكية تقف في كواليس المشهد وتراقب بهدوء.. لأن هدف الولايات المتحدة الأمريكية هو تحييد نفسها عن الصراع ما أمكنها ذلك، وما قد يتبعه من حرب لاحقة بين روسيا وأوروبا، أو على الأقل مع القطع الكامل للعلاقات الاقتصادية الروسية الأوروبية. فلطالما كان منع التحالف الروسي الألماني هو المهمة الرئيسية للأنغلو ساكسون على مدى قرنين من الزمان.

بعضهم يرى، أن الولايات المتحدة فازت بهذه الجولة، ونجحت في تنفيذ انقلاب بأوكرانيا في العام 2014، والآن، من خلال حربها في كييف، تمكنت من فرض صراع عسكري على روسيا.. إن تبعات ذلك على روسيا كارثية حقاً.

علاوة على ذلك، فإن الكارثة هي كارثة استراتيجية، وستبقى المعاناة من تداعياتها لـمئة عام على الأقل.. وسنشهد ظاهرة الانهيار الحتمي للنظام المالي العالمي. وعندما يصبح العالم المترابط والمتكامل بشكل متبادل في حالة خراب بعد انهيار نظام الدولار وهرم الديون العالمية.. سنشهد حالة من تسارع الأحداث، قد تؤدي لنشوب حرب نووية، أو على الأقل وضعاً ملتهباً، يقف فيه العالم على شفا حرب نووية، في موعد لا يتجاوز الصيف، وربما قبل ذلك.

على أي حال، سواء أبقيت روسيا في هذا العالم أم لا، سواء انتصرت أو لا، فلن يكون في نهاية الصراع أي ولايات متحدة أمريكية أو غرب على هذا الكوكب. أو على الأقل لن تكون هذه الكيانات بنفس الهيئة أو نفس الدور الذي تلعبه الآن..