آراء

في خلفيات تقليص الوجود الأمريكي بسورية.. تفاهمات غير معلنة!

بقلم: إياد مصطفى

كثيرة هي الرسائل التي أرسلتها واشنطن من وراء تقليص وجودها العسكري في بلد جريح، لا تزال تطعن بشرعية حكومته لتبقيه تحت بند سياسة الابتزاز، الممارسة من قبل أمريكا مع كل دول العالم بلا استثناء.

لكن السؤال الذي لا بد منه، هل كان تقليص عدد القوات الأمريكية وإعادة انتشارها داخل الأراضي السورية ليمر دون التنسيق المباشر أو عبر الحلفاء بين واشنطن ودمشق؟

وإلى أي مدى تعهدت السياسة البراغماتية للحكومة السورية بالحفاظ على المصالح الأمريكية طمعاً في انتزاع ثقة واشنطن، وصولاً إلى الاعتراف الكامل بها كحكومة تمثل الشعب السوري بكافة أطيافه؟ هذا مجازها نحو اعترافنا بها.

المهم إن إعلان واشنطن عن القيام بعملية إعادة انتشار لجنودها في سوريا والمباشرة بتقليص عددهم هناك، لم يكن بعيداً عن سياسة العصا والجزرة، التي يبدو أن الرئيس الأمريكي ترامب بصدد تبنيها في هذا البلد، وقد تجلت أحدث إشاراتها في حديث مسؤولين حكوميين أمريكيين لعدد من وسائل الإعلام عن إمكانية الاعتراف الأمريكي الصريح بسيادة سوريا على أراضيها، وإزالة أسماء المسؤولين الحكوميين السوريين عن قوائم الإرهاب، ورفع العقوبات أو تعليقها تمهيداً لوصول المساعدات الإنسانية من كافة دول العالم.

فالشروط الأمريكية المتعلقة بهذا الشأن باتت في جملتها معروفة وتتمثل في إقصاء المتشددين في سوريا عن المناصب الأمنية والسياسية، وعدم السماح بأن تكون الأراضي السورية منصة لأي نشاط سياسي أو ميداني وحتى إعلامي للفصائل الفلسطينية، وتقديم إحاطة كاملة وشفافة بمخزون الأسلحة الكيميائية في البلاد والالتزام بتأمين هذه الأسلحة على نحو علني ومسؤول.

ولعل الشروط الأمريكية التي لا تقبل المساومة أبداً تتمثل كذلك في محاربة داعش ومنع اشتداد عودها مجدداً، وقطع الطريق على أية عودة محتملة لإيران إلى الساحة السورية، انطلاقاً من أن هذين المطلبين تحديداً يشكلان حجر زاوية المصالح الأمريكية في هذا البلد.

المهم بالأمرأن شروع واشنطن بتقليص عدد قواتها في سوريا، لم تكن بعيدة عن الإشارات الإيجابية التي التقطتها من الحكومة السورية الجديدة في هذا الشأن، وتحديداً فيما يخص محاربة داعش وإجهاض عدد من مخططاتها الرامية إلى الضرب في عمق الأراضي السورية وتحديداً في دمشق.

بالمقابل اعتبر البعض أن حكومة دمشق، وإدراكاً منها للحساسية التي عادة ما تبديها الولايات المتحدة لعلاقة الدول مع الفصائل الفلسطينية المناهضة لإسرائيل والتي تصنفها كل من واشنطن وتل أبيب كحركات إرهابية، بادرت إلى استقبال الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي قصد دمشق في زيارة رسمية، استثمرتها حكومة الرئيس الشرع في طمأنة واشنطن إلى سلوكها الطريق المهادن في العلاقة مع القضية الفلسطينية بما تحمله من رمزية عند السوريين.. والذي يمر عبر قيادات فلسطينية ترضى الولايات المتحدة وإسرائيل عن سلوكها.

فيما بدا أنه سلوك براغماتي من قبل الحكومة السورية، سعت من خلاله إلى تشجيع واشنطن على الاعتراف بها، حيث كان لافتاً أنه وعقب الزيارة مباشرة، قام الأمن السوري باعتقال قياديين فلسطينيين من حركة الجهاد الإسلامي المعروفة بتبنيها للكفاح المسلح ضد إسرائيل وقربها الشديد من إيران.

الانسحاب تعزيز لنفوذ دمشق في وجه “قسد”

ناهيك على أن الانسحاب الأمريكي المتدرج من شمال شرق سوريا سيؤثر بلا شك في قدرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على المناورة السياسية والميدانية تجاه حكومة الرئيس الشرع، وبالأخص بعد فشل الأكراد في توحيد كلمتهم على خلفية إلغاء المؤتمر الكردي السوري العام، الذي كان يهدف إلى استخلاص موقف كردي صلب في مواجهة حكومة دمشق.. قبل أن يتبادل الأكراد الاتهامات فيما بينهم بشأن المسؤولية عن فشل انعقاد المؤتمر نتيجة لضغوط خارجية اتهم المجلس الوطني الكردي السوري بالانصياع التام لها.

ولعل هذا السلوك الأمريكي، يتمثل في تغير المواقف الدولية تجاه “قسد” التي بدأت تستشعر الضعف عقب بدء المدرعات الأمريكية بمغادرة الأراضي السورية قبل حوالي الشهر من الإعلان الرسمي عن ذلك.

وهو ما دفع “قسد” إلى الإعلان عن وقف تام لإطلاق النار في منطقة سد تشرين بريف حلب، والتي بقيت على مدى أشهر مسرحاً لمعارك عنيفة بين “قسد” وقوات من وزارة الدفاع السورية الجديدة.

وقد تكون من تداعيات هذا “التراجع” في المواقف السياسية بالنسبة لـ”قسد”، هو تسريب مصادر مقربة من دمشق عن قرب الإعلان عن إعادة فتح طريق أم فروخ قرب محافظة الرقة، بعدما أفضت النقاشات المشتركة بين الحكومة السورية و”قسد” إلى قرب تسليم هذه الأخيرة مناطق عين عيسى واللواء 93 إلى قوات وزارة الدفاع في الحكومة السورية الجديدة، مع نشر قوات من الشرطة المدنية بعد السماح بعودة السكان المدنيين إلى منازلهم وقراهم، كما أفضت النقاشات إلى قرب سيطرة القوات الحكومية على المناطق الحدودية، وبالأخص منها الحدود السورية التركية.

وأشارت المصادر المقربة من الحكومة السورية إلى أن واشنطن ستسلم الأراضي التي تسيطر عليها في دير الزور والرقة إلى قوات وزارة الدفاع السورية، مع احتفاظها بقاعدة تنسيق قرب سد تشرين بحيث تشرف على عملية التنسيق بين “قسد” وأنقرة ودمشق التي لا تزال تتمسك بموقفها الداعي إلى انسحاب “قسد” من المناطق ذات الأغلبية العربية في الرقة ودير الزور بناء على رغبة السكان العرب المتواجدين هناك وفقاً للرواية الحكومية.

كل هذه التنازلات ما كانت لتتم بهذا اليسر لولا الضغوط الأمريكية على “قسد” ودفعها للتعاون مع الحكومة السورية الجديدة، فيما يشكل نوعاً من التوطئة السياسية للاعتراف الأمريكي اللاحق بالحكومة السورية كممثل للشعب على كامل الجغرافيا السورية، وهو ما تمثل في بيان الخارجية الأمريكية الذي أعقب الإعلان عن وقف إطلاق النار في سد تشرين، والذي رحب بالتهدئة ووقف الأعمال العدائية في جميع أنحاء البلاد، كما دعا البيان إلى العمل بمسؤولية من أجل بناء سوريا موحدة ومستقرة وآمنة.

ثمة عوائق خلف الأكمة

دون أن نسقط من حساباتنا، أنه وعلى الرغم من كل الإشارات التي قد تفتح الباب على تعاون أوسع بين واشنطن ودمشق، فإن ثمة عوائق خلف الأكمة، لا تزال قادرة على كبح أي تطور إيجابي في هذا الشأن.

خاصة وأن أبرز هذه العوائق، تتمثل في وجود “متشددين” أو جذريين إسلاميين في عدد من المفاصل الأمنية والعسكرية والسياسية داخل الحكومة السورية ممن تضعهم واشنطن على قوائم الإرهاب، وتحديداً الأجانب منهم.

وهو أمر عزز الانقسام في الموقف الأمريكي الرسمي حيال آلية التعامل مع دمشق، والذي ينتظر أن يبقى قائماً ضمن قنوات التنسيق الأمني فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، فيما سيبقى رفع العقوبات أو تعليقها مرهوناً بمدى تجاوب دمشق مع المطالب الأمريكية المرتبطة بالدرجة الأولى بأمن إسرائيل، الجارة اللدودة التي لم تأخذ تطمينات الرئيس أحمد الشرع على محمل الجد.

وأن الصعوبات التي تعترض طريق الحكومة السورية في مساعيها لنيل الرضا الأمريكي، والتي ستمر حتماً بصدام ما بين الدبلوماسية السورية التي تريد الاستثمار في إنجازات الشهور الخمسة الأولى، والفصائل المتشددة أو إذا شئت الجذرية، التي لا تزال قادرة على التأثير العميق في المشهد السياسي المحلي وتداعياته الإقليمية رغم انضوائها ضمن القوات الحكومية، ليبقى مستوى العلاقة مع الأمريكيين مرهوناً بنتائج هذا الصراع الذي لا يزال يدور في الخفاء.

اترك تعليقاً