بعد أكثر من أربعة عقود من انتهاج الصين سياسية صارمة لتحديد النسل، للحفاظ على النمو الاقتصادي السريع، بدأت في تغيير اتجاهها راسا على عقب منذ عام 2013، بعد أن دقت أجراس الخطر!
في أول خطوة من نوعها، بادرت بكين في ديسمبر من عام 2013 إلى التخفيف من قانونها الشهير “أسرة واحدة، طفل واحد”، وسمحت بإنجاب طفل ثان بالنسبة للزوجين إذا كان أحدهما، الابن الوحيد في أسرته.
الدافع وراء هذا التغيير الجذري يعود إلى سببين، شيخوخة السكان وتباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في البلاد.
هذان السببان دفعا الصين بشكل عاجل ومتسارع إلى التحرك لتحفيز معدلات المواليد. وفي أعقاب عدة محاولات فاشلة لإحداث طفرة في المواليد، أعلنت السلطات الصينية عن برنامج وطني لدعم العائلات الشابة.
التصريح الجزئي بإنجاب طفلين لم يأت بنتيجة إيجابية دائمة، وبعد عامين، تواصل معدل المواليد في الانخفاض، وعلى سبيل المثال، انخفض هذا المعدل بحلول نهاية عام 2020 بنسبة 20 %، ولم يسجل إلا 12 مليون مولود جديد، وهو ما يمثل الحد الأدنى منذ عام 1961.
ومضت بكين في هذا الاتجاه وقرر المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في 31 مايو من عام 2021، السماح للأسر بإنجاب ثلاثة أطفال. وفي يوليو من نفس العام، أضفى مجلس الدولة لجمهورية الصين الشعبية عمليا الشرعية على هذا القرار، حيث ألغت السلطات الغرامات والعقوبات الأخرى على ولادة طفل ثالث.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أن الحكومة الصينية الآن لن تعاقب فحسب على ولادة طفل ثالث، بل على العكس تماما، ستشجع الأسر الشابة على إنجاب الأطفال ومساعدتهم من خلال تدابير مختلفة.
وكانت سياسة “أسرة واحدة، طفل واحد” قد بدأت في الصين منذ عام 1979، بهدف خفض معدل المواليد في البلاد وإبطاء النمو السكاني الذي كان الأعلى عالميا، حيث سمح للعائلات بإنجاب طفل واحد فقط مع بعض الاستثناءات. ومن ينتهك هذا القانون، يواجه غرامة عالية وعقوبات خطيرة، بما في ذلك الفصل من الخدمة المدنية والاستبعاد من صفوف الحزب الشيوعي الصيني.
منذ وقت ليس ببعيد، كان عدد السكان الضخم البالغ 1.4 مليار نسمة والعمالة الرخيصة “أوراقا رابحة” لدى الصين، إلا أن المعجزة الاقتصادية تحققت بعد أن دفع البلد ثمنا باهظا. وكي تتمكن الصين فعلا في أوقات مضت من إطعام سكانها، لجأت إلى الحد من معدل المواليد. وسمحت سياسة “أسرة واحدة، وطفل واحد “، والحد الأدنى من المعاشات التقاعدية والضمان الاجتماعي، وتدابير أخرى للحكومة، بتوفير موارد كبيرة ضرورية لبناء المزيد من المدارس والمستشفيات والبنية التحتية الاجتماعية الأخرى.
هذه الإجراءات الصارمة للحد من المواليد، أصبحت بعد ذلك بمثابة قنبلة موقوتة في طريقة نهضتها ونموها الاقتصادي السريع، حيث بدأت تظهر على الصين ملامح “شيخوخة” متسارعة، والآن يوجد
حوالي 200 مليون شخص في الصين فوق سن 60. وبحسب توقعات المختصين الصينيين، إذا لم يتم عكس الاتجاه الحالي، سيصل الرقم بحلول عام 2030 إلى 300 مليون، وسيرتفع في عام 2050 إلى حوالي 487 مليون من كبار السن في الصين، وبعبارة أخرى كبار السن يشكلون ما نسبته 35 ٪ من سكان البلاد.
تبدو هذه التطورات التي اتخذتها الصين في الاتجاه المعاكس لسياستها السابقة في هذا المجال بمثابة إعادة اكتشاف “إكسير الحياة” لهذا الكيان الضخم. يتبين ذلك من مواصلتها تطوير إجراءاتها في هذا الاتجاه لتحقيق الهدف المنشود وتحفير الولادات!
وتعمل الحكومة الصينية الآن كي لا تواجه الأسر التي لديها عدد كبير من الأبناء عقبات إدارية مختلفة عند التسجيل في مكان الإقامة، وتسجيل الأطفال في رياض الأطفال والمدارس والجامعات، وكذلك عند التقدم للحصول على وظيفة.
كما أعلن رسميا أن الحكومة الصينية ستنظر في العمل بخصم ضريبي لنفقات إعالة الأطفال دون سن الثالثة، وأن السلطات المحلية ستأخذ في الاعتبار، عند توفير السكن الاجتماعي، عدد الأطفال القصر في الأسرة، وأُعلن أيضا أن حصة تكاليف التعليم بين الأسر والمدارس ستتم مراجعتها، وسيتم تعزيز الرقابة على أسعار الخدمات التعليمية.
علاوة على كل ذلك، تعزز السلطات بنشاط القيم الأسرية التقليدية بين جيل الشباب وتحث على عدم تأخير ولادة الأطفال.
وعلى خلفية هذا الأمر، استهدفت إجراءات في السنتين الأخيرتين ممثلي مجتمع الميم، وجرى حظر وحذف العشرات من المجموعات والمدونات الأكثر شعبية بين المثليين الجنسيين في الإنترنت، فيما كانت السلطات الصينية لسنوات عديدة، تغض الطرف عن أنشطتها بين الطلاب والشباب، لكنها الآن قررت “تشديد الخناق”.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود التي تبذلها بكين، يشكك بعض علماء الاجتماع المحليين والأجانب في نجاحها، ويرون أنها جاءت متأخرة، وأن الشاب الصينيين في عصر العولمة وعلى خلفية الزيادة في مستوى التعليم والرفاهية، يؤجلون بشكل متزايد تكوين الأسر وولادة الأطفال.