آراء

الليبرالية تعيش مرحلة الانهيار

بقلم: عبد الكريم محمد
صحيح أن المسار الليبرالي بدأ يشق طريقه ليشكل معلماً عمدت الدولة الأميركية إلى تبنيه لدى قيامها في القرن الثامن عشر، حيث انتشرت الدعوة إلى اعتبار شعبها مواطنين أحراراً ومنهم من يكرس مبدأ حرية السوق المطلقة ويطلقون على أنفسهم وصف «الجمهوريين» ومنهم من يكرس مبدأ اتباع المسار الأخلاقي الشخصي – الفردي ويصفون أنفسهم بأنهم «الديمقراطيون».

لكن لم يقل أحد يوماً، أن الحرية المنشودة كانت وقفة على عرق بعينه دون بقية الأعراق البشرية، حيث بقيت العبودية والنظر إلى أصحاب الأرض الحقيقيين، بأنهم عبئاً حضارياً وأخلاقياً واجتماعيا واقتصادياً على هذا الأبيض باعتباره المستعمر الجديد.

أي أنها حملت الكثير من التناقضات والأمراض عند أصحاب ومعتنقي المذاهب والدعوات الليبرالية. ومن هذه الوجوه المتناقضة ما يتمثل في القول بأنها تدعو إلى الإجماع بناء على إعطاء الحرية، كل الحرية للفرد، ولكنها في الحقيقة، وفي مضمار الممارسة، تجنح في أحوال كثيرة إلى تكريس الأفكار التي تدعو إلى الفردية ثم إلى التركيز على حقوق الأفراد المتميزين.

وهذا التركيز نفسه هو الذي دفع فئة بعينها من هؤلاء الأفراد، وتحت شعارات الحرية، إلى إطلاق العنان لأطماعهم وتطلعاتهم الفردية، فإذا بهم يحتكرون الثروات ويسيطرون على الأسواق ويمارسون كافة الضغوط من أجل إنشاء نظم حكم وإدارات بيروقراطية فاسدة وقبيحة هدفها وهمها يصب في خدمة مصالحهم وتحقق أغراضهم، وهو ما يتم منطقياً على حساب الغالبية العظمى من الطبقات والفئات في المجتمع، الذي يتغنى أفراده وشعاراته بحكاية الليبرالية.

حتى التغني بمقولة المجتمعات الغربية المتقدمة، ومباهاة الأمم بأن اتباعها المبدأ الليبرالي كان له الفضل فيما حققته تلك الحكومات من إنصاف للمرأة، فضلاً عن تمكينها من الحصول على حقوقها مثل الرجل سواء بسواء.. لم يتعد بأن الأمر لم يزد في جوهره على إتاحة الفرصة من أجل إضافة النساء إلى طوابير العاملين الكادحين من الرجال في المصانع والمكاتب والمزارع وغيرها..

بل وفتح أسواقاً ربحية للتجارة بالرقيق الأبيض، الذي يندى له الجبين بداية من عروض الأزياء وملكات الجمال والمواخير والدعارة، ليصل بدوره إلى اعتبار المرأة مجرد سلعة في السوق عبر شركات ادعت لنفسها التخصص في إدارة هذه الأسواق، التي لا تقل بقبحها قبحاً عن العنصرية، التي ما تزال تمارس بكل وضوح في هذه المجتمعات.

ويمكننا القول، أن الإنجاز الرئيس العملي لتطبيق الليبرالية تحت شعار تحرير المرأة جاء متمثلاً في إضافة العديد من النساء إلى قوى العمل على صعيد رأسمالية السوق، مما يشكل برأي البروفيسور باتريك دينين أستاذ العلوم السياسية على سبيل المثال:” مظهراً من مظاهر التناقض في تعامل الليبرالية مع المجتمع”.

وقد رأى بعض علماء الاجتماع في الغرب بأن «الليبرالية معدومة الضمير»، ولعل التوجهات المبكرة في إطلاق العنان لمصطلح «النيوليبرالية» وهو المنحى الذي كادت تتحول إليه منذ الثلث الأخير من القرن الماضي معظم النظم الرأسمالية في الغرب الأوروبي (وخاصة منذ مرحلة حكم مرغريت ثاتشر في إنجلترا وتوازيها حقبة الرئيس دونالد ريغان في أميركا).

وهي الليبرالية التي تنحاز إلى قوى السوق التي يسيطر عليها كبار الرأسماليين وعتاة الاحتكاريين الذين جعلوا من الربح، والربح فقط، هدفهم المحوري بصرف النظر عن مصالح ومعايش، وطبعاً آلام ومعاناة، الجموع الغفيرة من الفقراء الذين يشكلون الأغلبية الكاسحة في المجتمع البشري المعاصر.

فقد تحولت قوة العمل بهذه المجتمعات إلى جيوش من الخدم، بحيث تتجاوز نسبة هذه الجيوش ٨٠% من اليد العاملة الرخيصة.. ناهيك عن فقدان العقد الاجتماعي الذي كان يمكن البناء عليه في تشكيل طبقة وسطى قوية قادره على إرساء السلم الأهلي.. وتأمين العدالة الاجتماعية والوقوف بوجه التغول التي تمارسه الشركات المتحكمة برؤوس الناس.

المهم بالأمر أن ليبرالية الشركة الاحتكارية وتسويق الدعارة والاتجار بالرقيق الأبيض والفساد، وصل إلى النهايات، تماماً كما وصلت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق، وسيشهد العالم قريباً وقريباً جداً الكثير من الأزمات العصية على الحل، لتكون المقدمة للانهيار الكبير لهؤلاء..

ومن أهم النتائج ستعود البشرية إلى خلدها في بناء ديموقراطيات تعتمد الحريات الفردية المقوننة والهادئة القائمة على الاحترام المتبادل بين الأعراق والشعوب، والتي تستند إلى العدالة الاجتماعية، ولو بشكل نسبي.