سياسة

الاتفاق السعودي الإيراني.. لماذا الآن؟

بقلم: أ. أحمد مظهر سعدو
شهدت المنطقة العربية وما حولها انزياحات إستراتيجية وتكتيكية تشمل واقع العديد من الأنظمة العربية وعلاقاتها مع المحيط والإقليم، إضافة إلى المزيد من التغيرات والمقاربات الجديدة ضمن سياساتها المتحركة، والتي تنبئ بانقلابات في الفكر والممارسة، سوف تؤثر بالضرورة على مجمل قضايا المنطقة، ليس أولها المسألة السورية، وليس آخرها أوضاع اليمن ولبنان، وكذلك العراق.

ولا يبدو أن الاتفاق الإطاري الذي أُعلن عنه مؤخراً بين المملكة العربية السعودية وإيران برعاية صينية، جاء خارج السياق، بل يندرج في أَتون التقلبات البينية التي تعيشها المنطقة، وفق تصورات نفعية براغماتية تشي بالكثير، ما يمكن أن يجري تحت الجسر عبر سنوات قادمة وانبلاجات متغيرة، لما يمكن تسميته بالخروج كلياً أو جزئياً من حالة الركود والستاتيك التي وسمت سياسات المنطقة عبر سنوات وعقود خلت.

ويبقى السؤال الذي لا بدّ منه لماذا الآن؟ وما الذي دفع سريعاً إلى إنجاز هذا الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران، في وقت كان يَظن فيه البعض ألا إمكانية مطلقاً لأية توافقات أو تفاهمات بينهما، من منطلق أن الصراع مصيري، وأن السياسات والأطماع الإيرانية المحدقة كبيرة، وتهديدها المباشر، وغير المباشر، للأمن القومي العربي، ومن ضمنه ومن أهمه بالضرورة لأمن دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.

المقاربة هنا يمكن أن تقول إن العربية السعودية وسياسات الأمير “محمد بن سلمان” أدركت بالممارسة العملية ألا إمكانية أبداً، وفي المنظور القريب، للاعتماد أو الاتكاء على سياسات أميركية استنادية داعمة، للحفاظ على أمن دول الخليج، وأن تجربة المملكة في اليمن تبين أن انسحابات سياسية إستراتيجية أميركية قد حصلت، تاركة العسكريتاريا السعودية لوحدها وتهيم على وجهها، دون أي دعم أميركي، لتترك (كما قيل) تقلع شوكها بأيديها.

وهي مسألة خطيرة أقلقت الإستراتيجيات الخليجية، ودفعتها إلى انجدالات جديدة، ونسج علاقات قوية مزعجة للأميركان، تناكف السياسة الأميركية، المنسحبة جزئياً من المنطقة (دون قصد) لصالح لاعبين جدد يملؤون الفراغ، حسب مبدأ سياسة ملء الفراغ القديمة/ الجديدة، في جل المنطقة، ويتنطحون اليوم لإنجاز ضغط جدي على مجمل السياسات الأميركية في العالم خاصة بعد حرب أوكرانيا الروسية.

حيث تمظهرت السياسة الصينية كبديل مهم ولاعب جدي وقوي اقتصادي وسياسي، وقد يكون عسكرياً في قادم الأيام، من المتوقع أن يشكل خطراً وخللاً كبيراً في تموضعات الأميركان في المنطقة والعالم.

ويبدو أن الذهاب بعيداً (سعودياً) مع السياسة الصينية قد آتى أُكله، وأزعج السياسة الأميركية المرتبكة، وحقق علاقة قوية على المستوى الإستراتيجي بين المملكة والصين، وهو نفسه ما ساهم في إقناع السعوديين بالوصول إلى اتفاق بمثابة إعلان مبادئ أولي مع إيران الجارة/ العدوة، وذات الأطماع الكبيرة، في محاولة للجم بعض سياساتها العدائية تجاه المملكة العربية السعودية، والعرب عامة، وتخفيفاً من عبء الحرب في اليمن التي أرهقت المملكة، وراحت تكلّف الخليجيين غالياً.

وقد تكون أيضاً باباً من الأبواب التي كانت موصدة، من أجل الوصول إلى تفاهمات في الساحة السورية، بعد سياسة غض النظر الأميركي عن جملة تحركات عربية، ولوجاً إلى الانفتاح على نظام الأسد، من بوابة الإغاثة والإنسانية بعد الزلزال، وهو ما رأت فيه السعودية مدخلاً لإنجاز حل ما من الممكن أن يكون متكاملاً تكون فيه الرابح الأكبر، بعد أن تمنع أو تحول دون تحقيق سياسات إيرانية متحركة وخطرة، كان يمكن أن تشكل الخطر الأكبر على العرب بمجملهم، في ظل غياب المشروع العربي الدامع والمتماسك، والحدي المتكامل، في مواجهة مشروع فارسي طائفي يريد أن يحقق النصر المسموح به أميركياً، على العرب كل العرب، نحو إعادة مجد (كسرى أنوشروان) وإمبراطوريته البائدة حيث يتمنى أهل دولة الملالي الإيرانية الفارسية.

أوضاع وسياسات التخلي الأميركي والانسحابات الكبيرة من المنطقة، بعد حرب أوكرانيا وكذلك مصالح العربية السعودية المهددة في المنطقة، ما جعل واقعية الوصول إلى تفاهم مع الإيرانيين متسارعة وممكنة، بعد عثراتها الكثيرة منذ ماينوف عن عام مضى عبر لقاءات حوارية تفاوضية من بغداد إلى عمَّان. لكن يبقى السؤال جدياً وواقعياً: هل يمكن أن تفي إيران بوعودها وتقبل من جديد بتجرع كأس السم الذي سبق وتجرعه الخميني يوماً ما لحظة قبوله وقف إطلاق النار بعد حرب الثماني سنوات ضد العراق، في ثمانينات القرن المنصرم؟.

وهل يمكن أن تكون الإدارة الأميركية مرتاحة لهكذا اتفاقات؟ خاصة أنها جاءت برعاية صينية، ومن ثم إلى أي حد يمكن للإيرانيين أن يتراجعوا ويجمدوا سياستهم في التمدد خارج حدود إيران؟ بمعنى تجميد المشروع الفارسي بكليته الطامح إلى مزيد من السيطرة أو الهيمنة على المنطقة العربية؟ وهل ستكسب العربية السعودية كثيراً من هكذا اتفاقات؟ أم إنها مرحلة مؤقتة ومجرد تخفيف أو تجميد مؤقت للصراع والخطر المحدق؟ حتى يعاد رسم العلاقة من جديد بين السعوديين والأميركان بعد انتخابات أميركية قادمة قد تعيد (دونالد ترامب) من جديد إلى الإدارة الأميركية ومن ثم إعادة تموضع العلاقة والدعم إلى دول الخليج العربي، وحمايتها من أخطار إيران الإرهابية التوسعية.

أسئلة كثيرة ما زالت برسم المتغيرات القادمة، بعد هذا الاتفاق/ الإطاري وما برحت قائمة وممكنة ومشروعة.

دون ذلك وحوله ما تزال قوى المعارضة الرسمية السورية (على بؤسها) تنظر إلى هذا الاتفاق وغيره بعين حيرى وعجز مقيم، لم تستطع الخروج منه سابقاً، ولا يبدو أنها معنية أو قادرة جدياً على تخطيه، ضمن أية متغيرات أو انزياحات كبرى أو صغرى، حصلت أو يمكن أن تحصل، نتيجة الانفتاح العربي الجديد على إيران أو باتجاه النظام السوري، أو نتيجة حالة التسارع في العملية التفاوضية التركية الآنية مع النظام السوري برعاية روسية، ومباركة متأخرة من الإيرانيين، الذين باتوا متابعين ومراقبين ومشاركين بهذه المفاوضات المزمعة في موسكو.